دستور الماندنغ – أول دستور حر في العالم …. (الليبرالية ،بضاعتنا ردت إلينا)

تعريف :
* الشعب الماندينغي (بالإنجليزية: Mandinka) مجموعة إثنية من غرب أفريقيا تتواجد بشكل رئيسي في جنوب مالي وشرق غينيا وشمال ساحل العاج. يبلغ عددهم نحو 11 مليون نسمة، وهم يشكلون أكبر مجموعة فرعية من شعوب الماندي وواحدة من أكبر المجموعات العرقية في أفريقيا. يتحدث الماندينغيون لغة مندنكا، وهي إحدى لغات الماندينغ الغربية من أسرة اللغة الماندية ولغة تواصل مشترك في معظم أنحاء غرب أفريقيا. يُعدّ أكثر من 99 % من السكان من المسلمين وهم يعملون في الغالب في زارعة الكفاف ويعيشون في القرى الريفية. تُعدّ مدينة باماكو أكبر مركز حضري وهي عاصمة جمهورية مالي والتي يعيش فيها أيضًا شعب بامبارا الذين تربطهم صلة وثيقة مع شعب الماندينغي.
يُعدّ شعب الماندينغي أحفادًا لمملكة مالي التي وصلت إلى السلطة في القرن الثالث عشر تحت حكم الملك ساندياتا كييتا، الذي أسَّس إمبراطورية تضمنت جزءًا كبيرًا من غرب أفريقيا. ثم هاجروا باتجاه الغرب من نهر النيجر بحثًا عن الأراضي الزراعية الأكثر ملائمة والمزيد من فرص الغزو في الوقت الحاضر، يعيش شعب الماندينغي في منطقة الساحل الإفريقي الممتدة من غامبيا ومنطقة كازامانس في السنغال حتى ساحل العاج. وعلى الرغم من انتشارهم الواسع، إلا أنهم يشكلون أكبر مجموعة إثنية فقط في مالي وغينيا وغامبيا.
كنت قد كتبت في مقالة سابقة عن جذور الليبرالية في افريقيا ، وقلت ان دستور الماندنجو أو الماندنغ وهو اول دستور في العالم قد بزغ من افريقيا ويحمل ملامحاً ليبرالية قوية ، وكان مما كتبت وقتها : (ان الليبرالية هي بضاعتنا الافريقية رُدت الينا) ولا يوجد اثبات أفضل لهذه المقولة من دستور كوروكان فووغا الذي يسمى ايضا بدستور الماندنجو او الماندنغ، وهو الدستور الذي تمت صياغته جماعياً من تحالف قبائل الماندينكا في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي وتحديداً في عام 1236م واصبح دستوراً لامبراطورية مالي لعدة قرون، اي حتى انهيارها في 1645 . وكان بذلك اول دستور في العالم ربما ، وحمل مبادئ ليبرالية واضحة فيما يتعلق بتنظيم الدولة والحقوق والحريات وقضية الملكية والتنظيم الاجتماعي . كما حمى حقوق المرأة والاطفال وعموم الضعفاء في المجتمع، وحوى توجهات لحماية وحفظ البيئة فيما يمكن أن نعتبره رائداً للفكر الاخضر في العالم.
وقد تأسس الدستور وتمت صياغته بعد انتصار انتفاضة مسلحة على ملك اوتقراطي غاني (هو سوماوورو كانتي) ، والذي كان مسيطرا على الماندينغو، وكانت الانتفاضة المسلحة بقيادة سونجاتا كيتا، والذي كان منفيا قبلها لسنوات . وبعد نهاية الحرب جمع سونجاتا كل القبائل المتحالفة لمحاكمة المهزومين ولانتخاب ملك جديد ولصياغة قانون يصبح اساسا للدولة الجديدة والحكم . وقد تم انتخاب سونجاتا ملكا كما تمت الصياغة المشتركة للقوانين ومن ثم اعلان الدستور في ساحة كوروكان فووغا في مدينة كا ابا (حاليا اسمها كانغابا) وتقع على الحدود المالية الغينية . وقد تم نقل الدستور عبر الاجيال شفاهيا عن طريق مجموعة خاصة مكلفة بحفظ التاريخ ونقله للأجيال الجديدة ( دجيل) حتى تمت كتابته بجهود علماء ومؤرخين تقليديين في القرن العشرين وتم تبويب مواده ونشرها أول مرة المؤرخ الغايني سيريمان كووياتيي دون تدخل في الاصل
وقد اختلف الناس في عدد قوانين ذلك الدستور ، فمن يقول انها كانت 120 مادة ، وهناك من يقول انها كانت 150 مادة . والبعض يذهب الى انها كنت 44 مادة فقط. ويبدو ان سبب الاختلاف يكمن في الصياغة ، او الترتيب الزمني ، بين تلك المواد التي تمت صياغتها اولا وتلك التي تمت اضافتها لاحقا .. حيث غالبا ما تمت صياغة اغلب المواد في مؤتمر كوروكان فووغا والذي استمر لمدة اربعين يوما ، ثم تمت صياغة باقي المواد وتعديل بعضها في مؤتمرات لاحقة اثناء حكم سونجاتا وكانت تلك المؤتمرات اللاحقة في مدينة نياننبا. ويبدو انه كان لسونجاتا القدح المعلى في اقتراح القوانين وصياغتها.
وقد تمت صياغة الدستور من مصادر مختلفة ، أهمها عادات سكان الماندنغ وأعرافهم وتقاليدهم القديمة التي تمت غربلتها وتنقيحها وتخفيفها واختيار الصالح منها وترك الطالح ، ثم قوانين و عادات قبيلة سراكولي المتأثرة بالشريعة الإسلامية جاء بها سونجاتا من منفاه في مملكة ميما وأدخلها في الدستور ، ثم بعض قوانين الحاكم السابق سوماوورو ذات الطبيعة الصعبة والتي تم ادخالها في الدستور الجديد بعد تليينها وادخال المرونة عليها .
وقد وقعت علي نص متكامل لمواد الدستور كما جمعها وعلق عليها العالم الغيني الشيخ سليمان كانتي ونشرها باللغة المحلية انكو ( N’ko) وكما ترجمها إلى العربية العالم أبوبكر محمد كوناتي ونشرها في دراسة خاصة بعنوان ( النصوص القانونية الماندينكية القديمة على ضوء التشريع الإسلامي). وقد قمت بتنقيحها وتخليصها من ملاحظات كل من الجامع والمترجم ، ومن بعض الاخطاء او عدم الوضوح في الترجمة ،وذلك وفقا لما توفر لي من نصوص انجليزية غير كاملة للدستور.
جدير بالذكر ان الدستور ورغم تقدميته في كثير من القضايا ، الا انه قد حافظ على الكثير من قوانين الماندينغ المتشددة ، حيث كان مجتمع الماندينغ مجتمعا قائما على التراتبية الطبقية الصارخة وعلى الفصل الجنسي بين الرجال والنساء وعلى توقير الكبير لدرجة المبالغة ، لذلك عمل الدستور على تخفيف هذه القوانين، وان لم يستغن عنها كلية ، وما كان له ان ينجز ذلك اذا اخذنا في الاعتبار دور القيادات التقليدية في صياغة الدستور.
وتتضح براغماتية سونجاتا والدستور في الموقف من العبودية مثلا، فقد كان الملك سوماوورو قد الغى العبودية كجزء من محاولته تكسير الاساس الاقتصادي لارستقراطية الماندينكا ، ويبدو ان سونجاتا نفسه كان يملك نفس الافكار حول تحرير العبيد ، بدليل تحريره لعبيده انفسهم في ذلك المؤتمر ، ولكنه لم يكن في امكانه الوقوف كليا ضد ارستقراطية الماندينكا خصوصا ان واحدا من اسباب دخولهم الحرب هو رغبتهم في استعادة عبيدهم . لهذا فإن اقر الدستور العبودية الا انه حاول تجفيف مصادرها ، وفي هذا قال سونجاتا ((كنا نود تحرير الأرقاء ( العبيد ) اليوم ووضع حدا للعبودية كلية ولكن يقال في المثل الماندنكي ” إن الدجاجة تعرف ما سيفعل بها بما يفعل بالطير ” فعلى هذا ، عرفنا في محاكمة أسرى أهل سوسو أن زملائنا لم يرضوا بتحرير العبيد (الأرقاء ) لذا سوف نترك الأمر كما هو أولا ، ولكن سنسهل على العبيد تسهيلا كبيرا ونجيز لهم الملكية حتى يقدروا على شراء عبيد آخرين لأنفسهم ، في هذا الصدد من كان له عبدا فليعرف أنه إنسان لا حيوان فمن عامل العبد معاملة الحيوان أدبناه وعاقبناه.))
ويمكن اعتبار الملك سونجاتا ملكا علمانيا يؤمن بحرية الاديان. فرغم انه أعلن عن نفسه حاكما مسلما ورغم انه تربي في بيئة مسلمة ومن ابوين مسلمين واستعار كثير من المفاهيم الاسلامية في الدستور ، الا انه قد خط الدستور اساسا وفقا لقوانين تقليدية وعرفية وقوانين اخذها بالاحتكاك . ويبدو ان هدفه كان تنظيم المجتمع وفقا لقوانين جيدة وليس الاهتمام بمرجعيتها الفقهية . فوق ذلك فقد وافق سونجاتا على إنشاء الغابة المقدسة وهي مكان لتقديم القرابين وممارسة الطقوس الوثنية خارج مدينة نياني (عاصمته)، فوق مشاركته هو نفسه في ممارسات اعتبرها الفقهاء غير اسلامية ومن ذلك قبوله المنصب الشرفي كرئيس للقناصيين وكرئيس للسحرة ومشاركته في حفلاتهم التي كانت ذات طابع وثني خالص. وقد جاء في انتقادات الشيخ سليمان كانتي له (إهماله أمر قراءة القرآن الكريم وتعليمه وتقليله شأن القرآن فلم يأمر بقراءته بالمؤتمر ولا فيما بعده).
وفي مجال العلاقات الشخصية فقد كان سونجاتا ودستوره متحررا، حيث اباح الاختلاط ومبيت الشابات والشباب معا ، وكان مجتمع الماندنغ قبلها متشددا في منع الاختلاط رغم ان سونجاتا شدد على عدم الانفراد والمخالطة الجنسية لغير المتزوجين. كما ان عدد من القوانين فيما يتعلق بالأحوال الشخصية ( العدة ، زواج الحفيد بزوجة الجد بعد موته الخ) كانت متحررة ومخالفة للشريعة المدرسية . اما مخالفته الواضحة للعرف الاسلامي فقد كانت في قول الدستور أنه اذا اصيب الرجل بمرض جنسي أي عدم القدرة على الجماع ولم يمكن شفاؤه ممكنا فله أن يرضى بإعطاء زوجته لبعض أقاربه سرا تكون له زوجة في الليل ولزوجها الأصلي في النهار ويكون الأولاد منسوبين لزوجها الأصلي، ويبدو ان هذا راجع لتقاليد قبلية قديمة لمجتمع الماندنغ.
وكان دستور الماندنجو متقدما على كل الدساتير الاوروبية والغربية ، حيث سبق قائمة الحقوق البريطانية ب 453 سنة ، وسبق إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي بأكثر من نصف قرن ، وقد اعطى الدستور العمال يومين للراحة في الاسبوع ، وسبق بذلك كل من اوروبا والولايات المتحدة التي بدأت في تطبيق عطلة اليومين الاسبوعية في ستينات القرن الماضي ، أي بعد اكثر من 800 عاما على دستور الماندنجو . وقد انتقد البعض من المركزيين الاوروبيين الدستور بل لم يعترف به بعضهم باعتبار ان نصوصه كانت تنقل شفهية وليس بشكل مكتوب ، ناسين ان الدستور الانجليزي حتى اليوم – وان لم يكن شفهيا – الا انه غير مكتوب بل وغير مصاغ ويعتمد على العرف والتقاليد والسوابق.
ويحفظ الدستور عددا من أهم حقوق الانسان المعاصرة ، حيث يحفظ الحق في الحياة حيث يقول ( كل فرد له حق الحياة وحرمة الجسد ، ووفقا لذلك فان كل ان محاولة لقتل انسان تعاقب بالموت) – كما يحفظ الحق في الملكية ويحدد مصادرها حيث يقول ( هناك خمس طرق للحصول على الملكية : الشراء، التبرع والتبادل والعمل والميراث. أي شكل آخر من دون شهادة مقنعة يظل أمراً مشكوك فيه.) كما يحفظ حقوق المرأة حين يقول ( النساء ، بغض النظر عن مهامهن اليومية ، يجب ان يشتركن في قضايا الادارة العامة ) وكذلك ( لا تهن النساء ابدا ، هن امهاتنا) ، وهو في العموم دستور متقدم جدا وبعض مواده يمكن ان تستخدم حتى اليوم .
وقد قسم الباحث أبوبكر محمد كوناتي الدستور الى 14 فصلا ، حيث خُصص الفصل الأول لقضايا المعاملات المالية بما تشمله من تحديد وإثباتات مصادر الأموال وقضايا الهبة والعطاء والإعارة والدين والقرض ثم ضمان اموال الغرباء . اما الفصل الثاني فمخصص لقضايا الاحوال الشخصية بما تشمله من قضايا الزواج و المهر والمصاهرة الخ أما الفصل ال ثالث فيبحث في قضايا الرق والأرقاء وحقوقهم ويميل لتجفيف منابع الرق وأما الفصل الرابع فهو خاص بالتنظيم الاجتماعي بما يشمله من دعم الملكية الفردية ومحاربة الاحتكار والجد في العمل ومحاربة الكسل الخ ، ويتطرق الفصل الخامس الى تحريم القتل وحفظ النفس بما في ذلك تحريم قتل الغرباء ، اما الفصل السادس فيعني بالتنظيم الاداري والمناصب المختلفة والتراتبية الاجتماعية في مجتمع الماندينغ ، اما الفصل السابع فيبيح وينظم التمازح بين الفئات المختلفة حيث كان مجتمع الماندنغ قبلها مجتمعا متجهما صارما لا يسمح بالمزاح حتى بين افراد الاسرة الواحدة وكان هذا مصدرا للكثير من التوترات والصراعات .
وينظم الفصل الثامن ما يمكن ان نسميه اليوم بقضايا الديمقراطية والشفافية وهو التشاور في مجتمعات الماندينغ بدءا من التشاور في الاسرة وحتى مع الملك ، ثم اجراءات الاعلام عن القرارات الصادرة عن تلك المشاورات . ثم يعقبه الفصل التاسع عن النظام القضائي وإجراءات التقاضي وحل المنازعات الخ ، ثم فصل عاشر قصير عن جرائم كانت خطيرة وتؤدي للقتل في مجتمع الماندينغ وهي جريمة شتم الوالدين وسب الناس بابن الزنا أو السب باسم العبد حيث خفف الدستور من حجمها وقال ان التعامل يكون بالرد بالمثل . ثم يتعرض الفصل العاشر لممارسة القسامة في التقاضي او الملاعنة وهي طقس سحري يتم اللجوء اليه عندما يفشل القاضي في معرفة المحق .أما الفصل الحادي عشر فينظم قضايا التوريث وتوزيع الإرث أما الفصل الثاني عشر فقد ناقش قضية التقويم حيث كانت هناك تقويمات متعددة في الماندينغ فأقر التقويم الاسلامي والأسماء الاسلامية سواء في ايام الاسبوع او شهور السنة .
وتطرق الفصل الثالث عشر الى مشكلة الكبر والصغر وإنشاء فرق الأقران الشبابية في الماندنغ ، وهي مشكلة خطيرة في مجتمع الماندنغ قبل الدستور ، حيث كان الاكبر سنا – ولو بيوم – يحوز على حقوق مطلقة تجاه الاصغر ، بينما تطرق الفصل الرابع عشر لقضايا الحقوق والضمانات الاجتماعية للإنسان في مختلف مراحل عمره من الطفولة إلى الشيخوخة.
وينتهي الدستور بخلاصة وتوصيات يمكن ان تشكل الفصل الرابع عشر والأخير ، وهو ديباجة متأخرة تتحدث عن ضرورة العدل والجدية في العمل وضرورة احترام القانون للحاكمين والمحكومين، وعبر عنها سونجاتا في كلمة مطولة . وكانت هذه القضايا قد اشار اليها الدستور من قبل في المواد عن العمل ومحاربة الكسل والمواد القضائية الخ ، كما انها تتفق مع قيم مجتمع الماندنغ وشعاره المتمثل في حب ( العلم والعمل والعدالة).
آخيرا أقول ان هذا الدستور الذي حكم امبراطورية مالي لاربعة قرون ، وهي امبراطورية شملت اغلب غرب افريقيا ، وامتدت جذوره عميقا في تراث تلك الشعوب والبلدان، بحيث ان بعض المجموعات المحلية لا تزال حتى اليوم تلتزم بتوجيهاته، يُعد فتحا كبيرا في مجال الفكر السياسي الافريقي ، واثباتا للعبقرية الافريقية . كما انه يشجعنا على توطين القيم الايجابية من تراثنا في واقعنا اليومي ، ونحن نواجه جحافل المغول الجدد، الذين ينشرون الخراب والموت في كل بلدان الساحل وعموم افريقيا، ويريدون العودة بشعوبنا الى عهود الظلمات، وهيهات.
عادل عبد العاطي
هذه المقالة كُتبت في التصنيف مقالات فكرية. أضف الرابط الدائم إلى المفضلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *